فصل: حِكْمَةُ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ فِي اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالْعَرْشِ لَيْسُوا أَبْعَدَ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِمَّنْ يُشَبِّهُونَ هَذِهِ الْعَوَالِمَ الْغَيْبِيَّةَ بِمَا يَعْهَدُونَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالِمِ الْمُتَغَيِّرِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ تَتَغَيَّرُ وَتَتَرَقَّى كُلَّمَا تَرَقَّى النَّاسُ فِي الصِّنَاعَاتِ، حَتَّى إِنَّ الشَّيْخَ الشَّعْرَانِيَّ صَوَّرَ الْمِيزَانَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَزِنُ بِهِ تَعَالَى أَعْمَالَ الْعِبَادِ الْمَعْنَوِيَّةِ كُلَّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبَيْنِ بِصُورَةِ أَحْقَرِ الْمَوَازِينِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ وَالْجَهْلِ بِفُنُونِ الصِّنَاعَةِ، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ قَدِ اخْتَرَعُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَوَازِينِ الدَّقِيقَةِ لِلْأَثْقَالِ الْمَادِّيَّةِ وَلِلْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالرُّطُوبَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالسُّرْعَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَعْرِفُونِ أَثْقَالَ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ رُكَّابَ السَّفِينَةِ الْغَوَّاصَةِ لَيَعْلَمُونِ وَهُمْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ حَوْلَهُمْ إِلَى أَبْعَادٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ وَأَثْقَالِهَا، وَبَعْضِ مَا يَتَحَرَّكُ فِي الْبَرِّ أَيْضًا.
هَذَا وَإِنَّ مِنَ التَّشْبِيهِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ مُنَفِّرَةٌ، وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا يُزِيلُ بَعْضَ الشُّبُهَاتِ الْمُضَلِّلَةِ أَوِ الْمُكَفِّرَةِ، وَلِذَلِكَ نَذْكُرُ بَعْضَ تَأْوِيلَاتِ الْخَلَفِ، مَعَ اسْتِمْسَاكِنَا بِتَفْوِيضِ السَّلَفِ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ مَا نَصُّهُ:
وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ شَيْءٌ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ، وَلَمْ يُعَرِّفْنَا حَقِيقَتَهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ حَفِظَ فِيهِ كِتَابَهُ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ، وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّهُ جُرْمٌ مَخْصُوصٌ فِي سَمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ، وَوَصْفُهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ الْيَقِينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا أَجْدَرَنَا لَوْ أَرَدْنَا التَّأْوِيلَ بِأَنْ نَأْخُذَ بِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ هُوَ لَوْحُ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَقَضَايَاهُ الشَّرِيفَةُ، لَمَّا كَانَتْ لَا يَأْتِيهَا الْبَاطِلُ وَلَا يُدَانِيهَا الْخَطَأُ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي لَوْحِ الْوَاقِعِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي لَا حَقَّ إِلَّا مَا وَافَقَهُ، وَلَا بَاطِلَ إِلَّا مَا خَالَفَهُ، وَلَا بَاقٍ إِلَّا مَا رُسِمَ فِيهِ، وَلَا ضَائِعَ إِلَّا مَا لَمْ يَنْطَبِقْ عَلَيْهِ. اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَمْ تَثْبُتْ عَنِ الْمَعْصُومِ بِالتَّوَاتُرِ وَلَا بِغَيْرِ التَّوَاتُرِ مِنْ أَحَادِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَرِيبٌ مِمَّا فَصَّلَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّوْحَ وَالْقَلَمَ وَالْعَرْشَ أَشْيَاءٌ مَوْجُودَةٌ هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّدْبِيرِ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي قَامَ بِهِ نِظَامُ الْكَوْنِ، لَا تُشْبِهُ أَقْلَامَ الْبَشَرِ وَأَلْوَاحَهُمْ وَدَفَاتِرَهُمُ الَّتِي يُدَوِّنُونَ بِهَا نِظَامَ دُوَلِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا عُرُوشَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ شَدِيدُ الْغُرُورِ بِعِلْمِهِ وَمَأْلُوفِهِ، فَالْأُمِّيُّ وَالصَّبِيُّ وَقَلِيلُ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْرَادِهِ أَشَدُّ غُرُورًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاسِعِي الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعَ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ مَا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ قَلِيلٍ مِعْيَارًا أَوْ قَالَبًا لِمَا لَا يَعْلَمُهُ- وَهُوَ كَثِيرٌ- وَمَهْمَا يَتَّسِعْ مِنْ عِلْمِ الْمَرْءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَا عِلْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، فَمَا الْقَوْلُ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [17: 85] وَإِنَّ لَنَا فِي دِمَاغِ الْإِنْسَانِ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْمُقَامِ، فَهُوَ كَلَوْحٍ تَرْسِمُ فِيهِ أَقْلَامُ الْمَعْلُومَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ فِي كُلِّ آنٍ عِلْمًا جَدِيدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَقْرَأَ مَا خَطَّهُ فِيهِ الزَّمَنُ الْمَاضِي كَمَا يُرَاجِعُ مَا يَكْتُبُ فِي الْقَرَاطِيسِ وَيُدَوِّنُ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنْ كَانَ يَنْسَى كَثِيرًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَيَقْرَؤُهُ كُلَّهُ فِي كِتَابِهِ {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} [79: 35] وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأْوِيلُ الْغَزَالِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، فَإِنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمَغْرُورِينَ بِالْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ لِلْحَوَادِثِ الَّذِينَ لَا تَرْتَقِي أَنْظَارُهُمْ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا مِنْهَا إِلَى خَالِقِهَا وَجَاعِلِهَا أَسْبَابًا: ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا نَمْلَةً وَاقِفَةً عَلَى قِرْطَاسٍ تُبْصِرُ رَأْسَ الْقَلَمِ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَيُسَخِّمُهُ بِالسَّوَادِ، فَتَنْسُبُ هَذَا الْفِعْلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَمْتَدُّ نَظَرُهَا إِلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، دَعْ صَاحِبَ الْيَدِ الْكَاتِبَ بِهِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمْ تَرَهُ يَكْتُبُ.
وَقَدْ شَرَحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْمَثَلَ بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ أَبْلَغِ مَا كَتَبَ قَلَمُهُ السَّيَّالُ، جَعَلَهَا مُحَاوَرَةً بَيْنَ أَحَدِ النَّاظِرَيْنِ عَنْ مِشْكَاةِ نُورِ اللهِ وَبَيْنَ الْقَلَمِ وَالْيَدِ مِنْ جَوَارِحِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، عَاتَبَ الْقَلَمَ الَّذِي سَوَّدَ الْقِرْطَاسَ فَأَحَالَهُ عَلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، وَهِيَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي صَرَفَتْهَا فِي قَطْعِ الْقَلَمِ وَبَرْيِهِ وَالْكِتَابَةِ بِهِ، فَلَمَّا سَأَلَهَا عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُسَخِّرَةِ لَهَا وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَطِيعُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهَا، وَهَذِهِ أَحَالَتْهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مُرْشِدُهَا وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا لَا تَنْبَعِثُ إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعِلْمِ وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ بَعْثِهِ الْإِرَادَاتِ إِلَى تَسْخِيرِ الْقُدَرِ فِي اسْتِخْدَامِ الْجَوَارِحِ، أَجَابَهُ أَنَّهُ خَطَّ رَسْمَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ فِي لَوْحِ الْقَلْبِ، وَقَالَ لَهُ: فَسَلِ الْقَلَمَ عَنِّي، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَلَمَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَأَنَّ فِي طَرِيقِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ الْمَهَامِهُ الْفَيَحُ، وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةَ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِي بَعْدَ حِوَارٍ طَوِيلٍ فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ السَّالِكُ السَّائِلُ: قَدْ تَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِي، وَاسْتَشْعَرَ قَلْبِي خَوْفًا مِمَّا وَصَفْتَهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَسْتُ أَدْرِي، أُطِيقُ قَطْعَ هَذِهِ الْمَهَامِهِ الَّتِي وَصَفْتَهَا أَمْ لَا؟ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ: افْتَحْ بَصَرَكَ، وَاجْمَعْ ضَوْءَ عَيْنَيْكَ وَحَدِّقْهُ نَحْوِي، فَإِنْ ظَهَرَ لَكَ الْقَلَمُ الَّذِي بِهِ انْكَتَبْتُ فِي لَوْحِ الْقَلْبِ فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِهَذَا الطَّرِيقِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ جَاوَزَ عَالَمَ الْجَبَرُوتِ- أَيْ عَالَمَ الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ- وَقَرَعَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَلَكُوتِ كُوشِفَ بِالْقَلَمِ، أَمَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كُوشِفَ بِالْقَلَمِ، إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [96: 3- 5] فَقَالَ السَّالِكُ: لَقَدْ فَتَحْتُ بَصَرِي، وَحَدَّقْتُهُ، فَوَاللهِ مَا أَرَى قَصَبًا وَلَا خَشَبًا، وَلَا أَعْلَمُ قَلَمًا إِلَّا كَذَلِكَ. فَقَالَ الْقَلَمُ: لَقَدْ أَبْعَدْتَ النُّجْعَةَ، أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ مَتَاعَ الْبَيْتِ يُشْبِهُ رَبَّ الْبَيْتِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُشْبِهُ ذَاتُهُ سَائِرَ الذَّاتِ، فَكَذَلِكَ لَا تُشْبِهُ يَدُهُ الْأَيْدِيَ وَلَا قَلَمُهُ الْأَقْلَامَ، وَلَا كَلَامُهُ سَائِرَ الْكَلَامِ، وَلَا خَطُّهُ سَائِرَ الْخُطُوطِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ إِلَهِيَّةٌ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، فَلَيْسَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ فِي مَكَانٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَا يَدُهُ لَحْمٌ وَعَظْمٌ وَدَمٌ بِخِلَافِ الْأَيْدِي وَلَا قَلَمُهُ مِنْ قَصَبٍ، وَلَا لَوْحُهُ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا كَلَامُهُ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ، وَلَا خَطُّهُ رَقْمٌ وَرَسْمٌ، وَلَا حِبْرُهُ زَاجٌ وَعَفْصٌ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تُشَاهِدُ هَذَا هَكَذَا فَمَا أَرَاكَ إِلَّا مُخَنَّثًا بَيْنَ فُحُولَةِ التَّنْزِيهِ وَأُنُوثَةِ التَّشْبِيهِ، مُذَبْذَبًا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ نَزَّهْتَ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ تَعَالَى عَنِ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا، وَنَزَّهْتَ كَلَامَهُ عَنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَخَذْتَ تَتَوَقَّفُ فِي يَدِهِ وَقَلَمِهِ وَلَوْحِهِ وَخَطِّهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ فَهِمْتَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ الْمُدْرَكَةَ بِالْبَصَرِ فَكُنْ مُشَبِّهًا مُطْلَقًا، كَمَا يُقَالُ: كُنْ يَهُودِيَّا صِرْفًا وَإِلَّا فَلَا تَلْعَبْ بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنْ فَهِمْتَ مِنْهُ الصُّورَةَ الْبَاطِنَةَ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ لَا بِالْأَبْصَارِ، فَكُنْ مُنَزِّهًا صِرْفًا وَمُقَدِّسًا فَحْلًا، وَاطْوِ الطَّرِيقَ فَأَنْتَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَاسْتَمِعْ بِسِرِّ قَلْبِكَ لِمَا يُوحَى، فَلَعَلَّكَ تَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، وَلَعَلَّكَ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْعَرْشِ تُنَادَى بِمَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [20: 12] فَلَمَّا سَمِعَ السَّالِكُ مِنَ الْعِلْمِ ذَلِكَ اسْتَشْعَرَ قُصُورَ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ مُخَنَّثٌ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّنْزِيهِ، فَاشْتَعَلَ قَلْبُهُ نَارًا مِنْ حِدَّةِ غَضَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَآهَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَلَقَدْ كَانَ زَيْتُهُ الَّذِي كَانَ فِي مِشْكَاةِ قَلْبِهِ يَكَادُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحِدَّتِهِ اشْتَعَلَ زَيْتُهُ فَأَصْبَحَ نُورًا عَلَى نُورٍ. فَقَالَ لَهُ الْعِلْمُ: اغْتَنِمِ الْآنَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، وَافْتَحْ بَصَرَكَ لَعَلَّكَ تَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَفَتَحَ بَصَرَهُ، فَانْكَشَفَ لَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ، فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّنْزِيهِ مَا هُوَ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا قَصَبٍ، وَلَا لَهُ رَأْسَ وَلَا ذَنَبَ، وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى الدَّوَامِ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ أَصْنَافَ الْعُلُومِ، وَكَأَنَّ لَهُ فِي كُلِّ قَلْبٍ رَأْسًا وَلَا رَأْسَ لَهُ، فَقَضَى مِنْهُ الْعَجَبَ وَقَالَ: نِعْمَ الرَّفِيقُ الْعِلْمُ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنِّي خَيْرًا، إِذِ الْآنَ ظَهَرَ لِي صِدْقَ أَنْبَائِهِ عَنْ أَوْصَافِ الْقَلَمِ، فَإِنِّي أَرَاهُ قَلَمًا لَا كَالْأَقْلَامِ.
فَعِنْدَ هَذَا وَدَّعَ الْعِلْمَ وَشَكَرَهُ، وَقَالَ: قَدْ طَالَ مَقَامِي عِنْدَكَ وَمُرَادَتِي لَكَ، وَأَنَا عَازِمٌ عَلَى أَنْ أُسَافِرَ إِلَى حَضْرَةِ الْقَلَمِ، وَأَسْأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَسَافَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ أَيُّهَا الْقَلَمُ، تَخُطُّ عَلَى الدَّوَامِ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعُلُومِ مَا تُبْعَثُ بِهِ الْإِرَادَاتُ إِلَى أَشْخَاصِ الْقُدَرِ وَصَرْفِهَا إِلَى الْمَقْدُورَاتِ؟ فَقَالَ: أَوَ قَدْ نَسِيتَ مَا رَأَيْتَ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ، وَسَمِعْتَ مِنْ جَوَابِ الْقَلَمِ إِذَا سَأَلْتَهُ فَأَحَالَكَ عَلَى الْيَدِ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ ذَلِكَ. قَالَ: فَجَوَابِي مِثْلُ جَوَابِهِ، قَالَ: كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تُشْبِهُهُ، قَالَ الْقَلَمُ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسَلْ عَنْ شَأْنِي الْمُلَقَّبَ بِيَمِينِ الْمَلِكِ، فَإِنِّي فِي قَبْضَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْدُدْنِي وَأَنَا مَقْهُورٌ مُسَخَّرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَقَلَمِ الْآدَمِيُّ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِي ظَاهِرِ الصُّورَةِ. فَقَالَ: فَمَنْ يَمِينُ الْمَلِكِ؟ فَقَالَ الْقَلَمُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [39: 67] قَالَ: نَعَمْ، وَالْأَقْلَامُ أَيْضًا فِي قَبْضَةِ يَمِينِهِ هُوَ الَّذِي يُرَدِّدُهَا. فَسَافَرَ السَّالِكُ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْيَمِينِ حَتَّى شَاهَدَهُ، وَرَأَى مِنْ عَجَائِبِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَجَائِبِ الْقَلَمِ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَرْحُهُ، بَلْ لَا تَحْوِي مُجَلَّدَاتٌ كَثِيرَةٌ عُشْرَ عُشَيْرِ وَصْفِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا كَالْأَيْمَانِ، وَيَدٌ لَا كَالْأَيْدِي، وَأَصْبِعٌ لَا كَالْأَصَابِعِ، فَرَأَى الْقَلَمَ مُحَرَّكًا فِي قَبْضَتِهِ فَظَهَرَ لَهُ عُذْرُ الْقَلَمِ، فَسَأَلَ الْيَمِينَ عَنْ شَأْنِهِ وَتَحْرِيكِهِ لِلْقَلَمِ، فَقَالَ: جَوَابِي مِثْلُ مَا سَمِعْتَهُ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ الْحَوَّالَةُ عَلَى الْقُدْرَةِ، إِذِ الْيَدُ لَا حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا مُحَرِّكُهَا الْقُدْرَةُ لَا مَحَالَةَ. فَسَافَرَ السَّالِكُ إِلَى عَالَمِ الْقُدْرَةِ، وَرَأَى فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ مَا اسْتَحْقَرَ عِنْدَهَا مَا قَبْلَهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ تَحْرِيكِ الْيَمِينِ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَنَا صِفَةٌ، فَاسْأَلِ الْقَادِرَ؛ إِذِ الْعُمْدَةُ عَلَى الْمَوْصُوفَاتِ لَا عَلَى الصِّفَاتِ، وَعِنْدَ هَذَا كَادَ أَنْ يَزِيغَ وَيُطْلِقَ بِالْجَرَاءَةِ لِسَانَ السُّؤَالِ، فَثُبِّتَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ سُرَادِقَاتِ الْحَضْرَةِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [21: 23] فَغَشِيَتْهُ هَيْبَةُ الْحَضْرَةِ، فَخَرَّ صَعِقَا يَضْطَرِبُ فِي غَشْيَتِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ، تُبْتُ إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَيْكَ، وَآمَنْتُ بِأَنَّكَ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، فَلَا أَخَافُ غَيْرَكَ، وَلَا أَرْجُو سِوَاكَ، وَلَا أَعُوذُ إِلَّا بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ، وَبِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَمَا لِي إِلَّا أَنْ أَسْأَلَكَ وَأَتَضَرَّعَ إِلَيْكَ، وَأَبْتَهِلَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَأَقُولُ: اشْرَحْ لِي صَدْرِي لِأَعْرِفَكَ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي لِأُثْنِيَ عَلَيْكَ. فَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: إِيَّاكَ أَنْ تَطْمَعَ فِي الثَّنَاءِ وَتَزِيدَ عَلَى سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَمَا آتَاكَ فَخُذْهُ، وَمَا نَهَاكَ عَنْهُ فَانْتَهِ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ فَقُلْهُ، فَإِنَّهُ مَا زَادَ فِي هَذِهِ الْحَضْرَةِ عَلَى أَنْ قَالَ: «سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» فَقَالَ: إِلَهِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلِّسَانِ جَرَاءَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْكَ فَهَلْ لِلْقَلْبِ مَطْمَعٌ فِي مَعْرِفَتِكَ؟ فَنُودِيَ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَخَطَّى رِقَابَ الصِّدِّيقِينَ، فَارْجِعْ إِلَى الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ فَاقْتَدِ بِهِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ فَيَكْفِيكَ نَصِيبًا مِنْ حَضْرَتِنَا أَنْ تَعْرِفَ أَنَّكَ مَحْرُومٌ عَنْ حَضْرَتِنَا، عَاجِزٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ جَمَالِنَا وَجَلَالِنَا انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَلَا نَدْرِي لِمَ وَقَفَ أَبُو حَامِدٍ هُنَا عِنْدَ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يُتِمَّ تَطْبِيقَ الْمَثَلِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ وَكَذَا الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمَا خَصَّصَتْهُ إِرَادَتُهُ وَاقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الْإِرَادَةِ لِلْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعِلْمِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالنِّظَامِ وَالْخَلَلِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَابِلَةِ إِذَا كَانَ تَامًّا كَامِلًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ مَا هُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ، فَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ الْإِرَادَةَ الْإِلَهِيَّةَ عَمَّا تَجْرِي بِهِ الْقُدْرَةُ بِتَخْصِيصِهَا فِي عَالَمِ التَّكْوِينِ، لَأَجَابَتْهُ بِلِسَانِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ الْمُحِيطُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَهُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَغَايَةُ النِّظَامِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا جُزَافٌ، وَلَا هُوَ بِالْأَمْرِ الْأُنُفِ الَّذِي يَكُونُ بِمَحْضِ الِاسْتِبْدَادِ {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [13: 8، 9] وَكِتَابَةُ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا تُثْبِتُ هَذَا، وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِالنِّظَامِ وَالْقَدَرِ الْإِلَهِيِّ فِي هَذَا الْكَوْنِ رَسَخَ إِيمَانُهُ بِذَلِكَ، وَقَلَّتْ حَيْرَتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي أَفْعَالِهِ شَيْئًا عَبَثًا أَوْ سُدًى أَوْ جُزَافًا جَاءَ آنِفًا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، عَارِيًا عَنِ النِّظَامِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، كَلَّا إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ سُلْطَانَهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ سُلْطَانٍ، فَلَيْسَ لِمَوْجُودٍ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُهُ عَمَّا يَفْعَلُ، يُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يُلْقِي عَلَيْهِ تَبِعَتَهُ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ، فَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْجَبْرِيِّ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَا لِلْمُذَبْذَبِ الْجَبْرِيِّ فِي الْبَاطِنِ السُّنِّيِّ فِي الظَّاهِرِ.

.حِكْمَةُ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ:

رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ حِكْمَةَ كِتَابَةِ اللهِ تَعَالَى لِمَقَادِيرِ الْخَلْقِ تَنْبِيهُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى عَدَمِ إِهْمَالِ أَحْوَالِهِمُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْوَرَقَةَ وَالْحَبَّةَ فِي الْكِتَابِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ حِكْمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ إِحْدَاهُمَا: اعْتِبَارُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُوَافَقَةَ الْمُحْدَثَاتِ لِلْمَعْلُومَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ التَّرْتِيبِ السَّابِقِ فِي الْكِتَابِ. وَلِذَا جَاءَ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»- ذَكَرَ ذَلِكَ الألوسي، وَجَعَلَ قَوْلَ الْحَسَنِ هُوَ الثَّانِي فِي التَّرْتِيبِ، وَالْعِبَارَةُ الْأَخِيرَةُ حَدِيثٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الألوسي، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْوِيًّا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ» وَوَرَدَ: «جَفَّ الْقَلَمُ» «وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ» فِي أَثْنَاءِ أَحَادِيثَ أُخْرَى.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي حِكْمَةِ الْكِتَابَةِ ضَعِيفٌ، وَحِكْمَةُ اللهِ الْبَالِغَةُ فِيهِ فَوْقَ ذَلِكَ، وَيَتَوَقَّفُ تَلَمُّحُ شَيْءٍ مِنْ جَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عَلَى تَدَبُّرِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالنِّظَامِ الْخَاصِّ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِمَا، وَعَلَى كَوْنِ تِلْكَ النُّظُمِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِنَا بِالسُّنَنِ وَبِالْأَقْدَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي عُرْفِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا بِالنَّوَامِيسِ أَوِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ، إِنَّمَا يُنَفِّذُهَا أَصْنَافٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ صِنْفَ الْحَفَظَةِ وَرُسُلِ الْمَوْتِ مِنْهُمْ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [77: 1] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [79: 1] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [79: 5] أَصْنَافٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ أَحَادِيثَ مِنْهَا الصِّحَاحُ وَالْحِسَانُ وَالضِّعَافُ، يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَلَائِكَةً هُمْ أَرْوَاحُ النِّظَامِ لَهُ. فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَايِشِ كَالرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَغَيْرِهَا خَزَائِنَ لَا يُنَزِّلُهَا إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِهَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُدَارُ بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّنْظِيمِ عَرْشًا عَظِيمًا هُوَ مَصْدَرُ التَّدْبِيرِ، أَفَلَا يَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ كِتَابٌ مُبِينٌ هُوَ مَظْهَرُ ذَلِكَ النِّظَامِ وَالتَّقْدِيرِ، كَمَا يُعْهَدُ لِلْمَمَالِكِ الْمُنَظَّمَةِ مِنْ كُتُبِ النُّظُمِ وَالْقَوَانِينِ؟ بَلَى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَإِنَّ لَنَا فِيمَا نَرَى فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامٍ وَكَمَالٍ وَفِي التَّكْوِينِ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ عَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَفِيمَا نَرَى مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ دَلَائِلَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعَلَى أَنَّ مَلَائِكَتَهُ أَكْمَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي تَنْفِيذِ مَا قُدِّرَ وَمَا أَمَرَ {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [21: 27] {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [66: 6] وَنَكْتَفِي بِهَذَا التَّلْمِيحِ الْآنَ، فَقَدْ طَالَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا طَالَ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.